الحق في الصحة: التزام قانوني ومسؤولية مجتمعية

الحق في الصحة: التزام قانوني ومسؤولية مجتمعية

بقلم: المحامي عمر زين

الصحة ليست مجرد غياب المرض، بل هي أساس الحياة الكريمة وركيزة أساسية لتحقيق العدالة والإنصاف في المجتمعات

في السابع من نيسان من كل عام، يحتفل العالم بيوم الصحة العالمي، تأكيدًا على أهمية الحق في الصحة كأحد الركائز الأساسية لحقوق الإنسان، وكتذكيرٍ دائمٍ بضرورة توفير رعاية صحية عادلة وشاملة لكافة الأفراد دون تمييز أو استثناء. فهذا اليوم لا يقتصر على كونه مناسبة رمزية، بل هو محطة هامة لتقييم الواقع الصحي العالمي، ورصد التحديات التي تواجه الأنظمة الصحية، والعمل على تعزيز سبل الوقاية والعلاج بما يضمن رفاهية المجتمعات وحماية الأفراد من الأمراض والأوبئة.

إني أؤمن بأن الصحة ليست مجرد مسألة طبية أو تقنية، بل هي التزام قانوني وأخلاقي يقع على عاتق الدول والمجتمعات وفقًا لمبادئ العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. فالحق في الصحة هو حق أصيل تكرّسه القوانين والدساتير الوطنية، وتدعمه المواثيق والاتفاقيات الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي ينص بوضوح على التزام الدول بتوفير أعلى مستوى ممكن من الصحة للأفراد، وضمان الوصول إلى الخدمات الطبية الضرورية دون عوائق.

إن تحقيق هذا الحق لا يتم فقط عبر إنشاء المستشفيات وتوفير العلاجات، بل يتطلب بناء منظومة صحية متكاملة قائمة على مبادئ المساواة والإنصاف. فالتمييز في تقديم الخدمات الطبية، أو الإهمال في توفير الرعاية اللازمة، أو عدم اتخاذ التدابير الكافية للوقاية من الأمراض، يشكل انتهاكًا صريحًا للحقوق الأساسية، ويستوجب تدخلًا قانونيًا حازمًا لضمان العدالة الصحية للجميع.

تُعد التشريعات الصحية ركيزة أساسية في ضمان الحق في الصحة، فهي تضع الأسس القانونية التي تُلزم الحكومات باتخاذ التدابير اللازمة لحماية الأفراد من المخاطر الصحية، وتوفير بيئة صحية سليمة، وضمان سلامة الغذاء والمياه، ومنع انتشار الأمراض والأوبئة. كما أنها تضع الأطر القانونية لمساءلة أي جهة تقصّر في أداء دورها، سواء كانت مؤسسات حكومية أو خاصة، لضمان عدم الإضرار بصحة الأفراد أو تعريضهم للخطر.

أرى أن التحديات الصحية الحديثة تتطلب تطويرًا مستمرًا في القوانين لمواكبة المتغيرات السريعة التي يشهدها العالم. فمع التقدم التكنولوجي وانتشار التقنيات الطبية الحديثة، أصبح من الضروري سنّ تشريعات تضمن الاستخدام الآمن لهذه التقنيات، وتحمي البيانات الطبية للأفراد، وتكفل الحق في الوصول إلى العلاجات الحديثة دون تمييز أو استغلال.

كما أن الأزمات الصحية العالمية، مثل جائحة كوفيد-19، أظهرت أهمية وجود قوانين واضحة تنظم آليات التعامل مع الأوبئة والطوارئ الصحية، وتحدد مسؤوليات الدول في حماية الصحة العامة، مع ضمان عدم التعدي على الحقوق والحريات الأساسية للأفراد. فالتوازن بين حماية الصحة العامة وصون الحقوق الدستورية هو مسؤولية قانونية وأخلاقية تتطلب تشريعات دقيقة وإجراءات تنفيذية فعّالة.

إن الرقابة القانونية على القطاع الصحي تُعد ضرورة لضمان جودة الخدمات الصحية ومنع أي تجاوزات قد تؤدي إلى الإضرار بالمجتمع. فالفساد الإداري، وسوء توزيع الموارد، والتقصير في تقديم الخدمات الطبية، كلها مشكلات تحتاج إلى تدخل القانون لحماية حقوق المرضى وضمان التزام المؤسسات الصحية بالمعايير المعتمدة.

أرى أن الحوكمة الرشيدة للقطاع الصحي تتطلب وجود آليات قانونية فعّالة لمكافحة الفساد الصحي، وتفعيل دور القضاء في محاسبة المقصّرين، وتعزيز الشفافية في إدارة الموارد الصحية. فالصحة ليست سلعة يمكن استغلالها لتحقيق أرباح غير مشروعة، بل هي حق أساسي يجب أن يُحترم ويُصان وفقًا لأحكام القانون.

إن تحقيق العدالة الصحية لا يقتصر على توفير العلاجات، بل يشمل ضمان بيئة صحية سليمة تقي الأفراد من الأمراض قبل وقوعها. فالقوانين يجب أن تفرض معايير صارمة لحماية البيئة من التلوث، وتنظيم سلامة الغذاء والدواء، والحد من المخاطر الصحية الناجمة عن ظروف العمل السيئة أو السكن غير الملائم. كما يجب أن تضمن حماية الفئات الضعيفة، مثل الأطفال وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، من أي تمييز قد يؤثر على حقهم في الحصول على الرعاية الصحية اللازمة.

لا يقتصر دور القانون على سنّ التشريعات، بل يتطلب أيضًا تعاونًا وثيقًا بين مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع، بما في ذلك الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، لتعزيز الوعي بالحقوق الصحية، والمطالبة بمساءلة الجهات المسؤولة عن أي تقصير أو انتهاك. فالإعلام له دور جوهري في تسليط الضوء على قضايا الصحة العامة، وكشف أوجه القصور، وتعزيز ثقافة الوقاية والوعي الصحي بين الأفراد.

“إن ضمان الحق في الصحة ليس خيارًا، بل هو واجب قانوني وأخلاقي يجب على الجميع الالتزام به. فالصحة ليست امتيازًا لفئة دون أخرى، بل هي حق أصيل يجب أن يُصان بالقانون ويُحمى بالعدالة، لأن المجتمعات السليمة تُبنى على مواطنين أصحاء، والعدالة الحقيقية تبدأ من الحق في الحياة الكريمة والصحة الجيدة.”

* الأمين العام السابق لاتحاد المحامين العرب

بيروت في 7/4/2025

  • مقالات ذات صلة

    الصدي يلتقي الجميل

    الصدي يلتقي الجميل إلتقى وزير الطاقة والمياه جو الصدي النائب نديم الجميل وتناول البحث الأوضاع في بيروت بما يتعلق بقضايا المياه والكهرباء

    لقاء بين “القوات” و”الهنشاك”

    التقى نائب رئيس الحكومة السابق النائب غسان حاصباني رئيس اللجنة التنفيذية لحزب “الهنشاك” في لبنان فانيك داكسيان برفقة عضو اللجنة التنفيذية ومسؤول المكتب الانتخابي لطفيك كود الازيان، بحضور رئيس جهاز…

    منوعات

    الباحثة في الجامعة الأميركية في بيروت أماني عوده نالت جائزة لوريال

    • أبريل 7, 2025
    • 4 views
    الباحثة في الجامعة الأميركية في بيروت أماني عوده نالت جائزة لوريال

    العد التنازلي لانطلاق منتدى الجمال والصحة النفسية والجسدية بدأ!

    • أبريل 7, 2025
    • 7 views
    العد التنازلي لانطلاق منتدى الجمال والصحة النفسية والجسدية بدأ!

    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة

    • أبريل 6, 2025
    • 9 views
    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة

    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة

    • أبريل 6, 2025
    • 9 views
    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة

    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة

    • أبريل 6, 2025
    • 8 views
    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة

    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة

    • أبريل 6, 2025
    • 11 views
    حلويات الجندولين تميز للحلويات الصيداوية ومطعم pearl لؤلؤة قاصدي المدينة